معرفة

إلياس خوري: رحيل نذير النكبة المستمرة

ولد إلياس خوري مع بداية النكبة، واصطدم عنفوان شبابه بعنفوانها، وشاخا معاً، لكنه سبقها في الرحيل.. فكيف أصبح اللبناني الأرثوذكسي مقاوماً فلسطينياً؟

future الأديب والروائي والمفكر والبروفسور اللبناني الراحل إلياس خوري

يحتقن تاريخ القضية الفلسطينية بالعديد من المبدعين العرب، الذين ذابت في كيانهم والتحمت بوجدانهم تلك القضية، حتى صاروا من نسيجها، والتحمت بلحمهم ودمائهم وأعصابهم، حتى ظنهم الكثيرون فلسطينيين أقحاحاً، ممن عايشوا فصول ملاحم فلسطين ونكباتها، ويحتفظون بمفاتيح بيوتهم التي هجِّروا منها، وقوداً للأمل في العودة المنشودة. ولعل الأديب والروائي والمفكر والبروفسور اللبناني الراحل إلياس خوري نموذج قياسي لهؤلاء، الذين أحب أن أسميهم عرب فلسطين.

عمر بين نكبتين؟

عندما نتحدَّث عن النكبة فإنَّنا لا نتذكَّر حدثاً جرى وانتهى في سنة 1948، لكنَّنا نشير إلى مسار طويل بدأ في تلك السنة، وامتدَّ بأشكال متنوِّعة ومتعرِّجة حتى اليوم. فالنكبة هي الآن أيضاً، وهي نكبة مستمرَّة. 

إلياس خوري: كتاب «النكبة المستمرة»

للمفارقة، وُلِد إلياس خوري عام 1948م، إبان الذروة الأولى للنكبة الفلسطينية التي صاحبت ولادة دولة الكيان العنصري الكولونيالي الاستيطاني الإحلالي الجاثم ذاك على جسد فلسطين، والخانق لقلب المشرق العربي كأنه انغمار تأموري جاثم على قلب ضعيف. وها هو خوري يرحل عن دنيانا يوم 15 سبتمبر 2024م، بعد قرابة العام منحرب الإبادة غير المسبوقة ضد قطاع غزة، والتي يريد العدو أن يجعل منها نكبة فلسطينية جديدة يكمل بها ما يراه المتطرفون عنده نكبة ناقصة وقعت إبان التأسيس عام 1948، أو باستعارة لغة إلياس خوري، يمكننا أن نصفها بأنها ذروة جديدة للنكبة الفلسطينية المستمرة منذ بدء الاستيطان اليهودي بدعم بريطاني كولونيالي قبل عقود، منعام 1948.

بين هاتين الذروتين للنكبة، انبسط عمر مديد وحافل لإلياس خوري، شكَّلته فصول خطرة أخرى في تاريخ القضية، حيث انفجر وعيه في شرخ الشباب على كسرة الهزيمة العربية الماحقة في حرب 1967، والتي أدت إلى فورة ثورية فلسطينية عندما أفاق الفلسطينيون بقرع الهزيمة المذلة على أنه لم يعد ينبغي لهم الركون إلى الأنظمة العربية لتحرير فلسطين.

زار خوري المخيمات الفلسطينية في الأردن عام1967،  وانضم هذا اللبناني المسيحي الأرثوذكسي إلى صفوف حركة فتح الفلسطينية، وأصيب معها في الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975. 

«ما راحت حياتنا سدى … لأ! كانت مجموعة محاولات لنعطيها معنى».

الراحل إلياس خوري في لقاء قبل سنوات على قناة العربية، عندما سأله المذيع عن مآل الفشل والخيبات الذي انتهت إليه أحلام النضال الثوري في شباب إلياس ومعاصريه.

لكن لم يكن السلاح هو أداة النضال الأساسية لخوري، بل كان الدرس والتاريخ والقلم هما أسلحته الأمضى والأدوم. فقد درس التاريخ في الجامعة اللبنانية وتخرج عام 1971 ثم حصل على الدكتوراه في التاريخ الاجتماعي من جامعة باريس. ومنذ عام 1972 عمل خوري في العديد من الصحف والمجلات اللبنانية والعربية، مثل مواقف، وشئون فلسطينية، والكرمل والسفير، ومجلة الدراسات الفلسطينية، وصحيفة القدس العربي. وشغل مناصب تدريسية في العديد من الجامعات العربية والأجنبية مثل الجامعة الأمريكية في بيروت وجامعة برلينو جامعة لندن، وفي عام 2006 عمل أستاذاً زائراً للأدب العربي الحديث والأدب المقارن في جامعة نيويورك الأمريكية.

على صعيد الإبداع الروائي، فللأديب الراحل عشر روايات، تُرجمت إلى العديد من اللغات، وكان الهم الأكبر له في أكثر تلك الإبداعات هو القضية الفلسطينية التي كان يعتبرها أكبر وأخطر قضية إنسانية في العصر الحالي. وقد نال إلياس خوري في حياته تكريماً استثنائياً يندر أن يناله المبدعون، وهو تحول خيالهم الأدبي إلى واقع ولو مؤقت، فبعد 15 عاماً من صدور روايته الأشهر «باب الشمس» عام 1998، أنشأ ناشطون فلسطينيون وأجانب قرية باسمها في أرض صادرها العدو في القدس، وبعدما قمعهم العدو، حاولوا إنشاءها مجدداً تحت اسم (أولاد يونس) ويونس هو اسم بطل الراوية. وقد عبر خوري عن سعادته البالغة بهذه الواقعة في مقدمة كتابه «النكبة المستمرة»، حيث اعتبر إنشاء تلك القرية الحلم ثم هدم العدو لها تلخيصاً رمزياً للنكبة المتواصلة التي طالما كان ينذر بها.

ولإلياس خوري نصيب خاص من التقدير لدى فلسطينيي الداخل المحتل، فنعاه التجمع الوطني الديموقراطي، واصفاً إياه بفاتح باب الشمس، إشارة لروايته الفريدة «باب الشمس».

تفقد الثقافة العربية اليوم واحداً من أعمدتها، وهو الكاتب اللبناني الفذ إلياس خوري، صاحب «باب الشمس». الذي كرس حياته وأدبه وقلمه وجسده في الدفاع عن فلسطين وشعبها في معركة العدالة والحرية. للخوري إنتاجات ثقافية مهمة أرَّخت لفلسطين وناسها وحكاياتها. خسرت فلسطين اليوم كاتباً كانت تعيش فيه ومعه. وللداخل نصيب من إبداعات إلياس خوري، فهو مؤرخ نكبة اللد روائياً، وفاتح الباب إلى واحد من أصعب فصول التاريخ الفلسطيني.

الوعي بالنكبة … والوعي باستمرارها

هناك العديد من الجوانب الثرية في شخصية وإنتاج إلياس خوري، المبدع اللبناني الأصل، فلسطيني الهم والهوى، والتي لا تتسع لأكثرها المساحة الحالية، لكنني سأركز على ما أراه أخطر هذه الجوانب، لاسيما وقد مر قرابة العام على حرب الإبادة ضد غزة (والضفة) والتي سماها رئيس وزراء العدو حرب الاستقلال الثانية، مشيراً إلى نكبة 1948 التي انبثق فيها الكيان إلى الوجود فوق حمام من الدم وطوفان من التهجير للفلسطينيين.

أفرد إلياس خوري من إبداعه ومن أعصابه ووجدانه، نصيباً بارزاً لتقديم وعي جديد وعميق بالنكبة الفلسطينية، وحشد الدليل تلو الدليل على أنها لم تكن حدثاً من الماضي وقع عام 1948، إنما هي نكبة مستمرة تتباين وتيرتها ووسائلها، كماً وكيفاً، وصعوداً وهبوطاً، وتشغل الماضي والحاضر والمستقبل. وقد قدم الراحل خوري خلاصة الخلاصة لهذا الهم بالنكبة في كتابه التجميعي «النكبة المستمرة» وهومما خفَّ وزنه، وغلت في موازين المعنى والمبنى قيمته، والذي صدرت طبعته الأولى أوائل هذا العام 2024 بعد بضعة أشهر من اندلاع حرب الإبادة ضد غزة، والتي أتت برهاناً مؤلماً على صحة نظرية النكبة المستمرة، وجاء بعد سنوات عديدة من انقلاب الربيع العربي إلى خريف للثورة المضادة التي وأدت أحلام الشعوب العربية في التحرر، ومعها آمال في فلسطين في أن يكون لها ظهيرٌ عربيٌّ بحق.

«أنظمة تضطهد اللاجئين الفلسطينيين وتدمر مخيَّماتهم وهي تتغرغر بكلامٍ قوميٍّ عن قدسيَّة فلسطين، بحيث صار ادِّعاء حب فلسطين وسيلةً لقمع الفلسطينيِّين وسحقا للشعوب العربيَّة. يحبون فلسطين ويكرهون الفلسطينيِّين ويقمعون شعوبهم! ما هذا العبث الكلامي الذي لا يطاق؟‏»

إلياس خوري، في إحدى مقالاته المجموعة في كتاب «النكبة المستمرة» يعرِّض بالنظام السوري خاصة، وعامة بالأنظمة العربية التي تصدرت بقضية فلسطين لقمع شعوبها.

لم يفت خوري كذلك في سياق حديثه عن النكبة أن يشير إلى أنَّ الصهيونية كانت مشروعاً كولونيالياً عنصريا غربياً بامتياز، حتى إن قيامه قد تجاهل ثم أضر باليهود الشرقيين (المزراحيم) لا سيما في البلاد العربية، الذين عاشوا لقرونٍ في سلامٍ نسبي بالمقارنة بنظرائهم يهود أوروبا الذي تعرضوا على مدار قرون للكثير من التنكيل من محاكم التفتيش في العصور الوسطى، إلى الهولوكوست النازي في العصرالحديث. وهذه المآسي هي التي أراد الغرب الكولونيالي حلها على حساب الفلسطينيين والعرب بدعم المشروع الصهيوني. وفي هذا السياق يؤكد خوري على اتساق منظوره الإنساني الشامل، فهو لا يميز في الإشارة إلى ضحايا الصهيونية وإن تباينت وتفاوتت أنماط ودرجات مظلوميتهم.

«لم يجد الألم الفلسطيني سوى آذانٍ صمَّاء في الوطن العربي، أمَّا في الغرب، فقد قامت أوروبا بغسل يديها من الدم اليهودي بالدم الفلسطيني. صمت الضحيَّة ليس المسألة، فالضحيَّة أكرهت على الصمت، والألسنة لم تقطع، لكنَّ الآذان اختارت الصمم».

إلياس خوري … النكبة المستمرة

ومن أبرز ما ركز عليه خوري في عرضه لحقائق النكبة التي لم تتوقف،  تفنيد أهم الأساطير التي تحوم حولها وتلقى رواجاً حول العالم، وتساهم في استمرارية تلك النكبة. فمثلاً ما أسماه أسطورة (التقسيم)والتي تدعي أن رفض الفلسطينيين والعرب لقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين عام 1947، ولجوئهم للحرب ثم خسارتها، قد تسبب في ضياع أكثر من نصف ما منحهم إياه القرار، أكد خوري أن جميع مشاريع تقسيم فلسطين من اللجنة الملكية البريطانية 1936 إلى الأمم المتحدة 1947، لم تكن سوى غطاءٍ أثيم للتطهير العرقي والتهجير.

وأكد خوري أن أسطورة تسبب الحرب العربية ضد العصابات الصهيونية عام 1948 في نكبة فلسطين ومئات الآلاف من اللاجئين الذين أصبحوا بالملايين الآن، هي خرافة. فالخطة الإسرائيلية المعروفة باسم (دالت)، والتي شرع العدو في تطبيقها منذ مطلع أبريل 1948، لاحتلال وتطهير أكبر قدر ممكن من فلسطين قبل إعلان الدولة اليهودية منتصف مايو 1948، قد شملت 13 عملية عسكرية فرعية، ثمانية منها خارج حدود الدولة اليهودية التي وردت في قرار التقسيم، وأسفرت عن احتلال العديد من المدن العربية الرئيسة مثل طبرية وحيفا ويافا وعكا، وتدمير وتطهير مئات القرى الفلسطينية عبر المذابح والترويع كمجزرة دير ياسين في التاسع من أبريل 1948، ومعظم هذه الأعمال الشائنة وقعت قبل إعلان الدولة اليهودية، وقبل تدخل الجيوش العربية.

كذلك فنَّد خوري أساطير السلام والتي أدت إلى اتفاقية أوسلو عام1993 وما تلاها من حكم ذاتي منقوص ومأزوم في الضفة وغزة لم يمنع تفاقم الاستيطان، ولا النكبة المزمنة في الضفة، والنكبة الحادة في غزة الآن، وأطلق عليها اسم (الاستسلام) بدلاً من السلام، واتفق إلياس خوري مع نقد إدوارد سعيد للقيادة الفلسطينية التي وقعت تلك الاتفاقية، واتهمها الرجلان بأنها أغفلت دروس التاريخ، وعزَّزت الخطاب الصهيوني السائد والذي يجعل من الفلسطيني في فلسطين التاريخية حاضراً غائباً، سواءً كان ممن بقوا في الداخل المحتل خلف الخط الأخضر، أو كان من سكان الضفة أو القدس أو غزة.

يرى إلياس خوري أن منظمة التحرير استسلمت للعدو في أوسلو، وسلَّمت له بـ 78% من فلسطين التاريخية، مقابل الحفاظ على حق الفلسطينيين في الوجود فيها، ولم يمنحهم العدو حتى بعض هذا الحق. وبتعبير خوري المؤلم، رفض العدو قبول هذا الاستسلام الفلسطيني خشية الاعتراف بالوجود الفلسطيني المجرد، ورفضاً للتخلي عن تأويل الحضور الفلسطيني بأنه غياب، ويرى خوري أن تلك الحقيقة حول استسلام الضحية ورفض الجلاد لهذا الاستسلام لأن يعني اعترافاً ما بوجودها، هو جوهر النكبة، والدليل الساطع على أنه مسار ممتد منعام 1948 إلى حاضراً، وإلى مستقبل أبعد من المستقبل القريب الذي لا توجد مؤشرات ملموسة على أنه قد يحمل نهاية لتلك النكبة المستمرة.

وداعاً إلياس خوري

«غزة وفلسطين تضربان بشكل وحشي منذ ما يقارب العام، وهما صامدتان لا تتزحزحان. إنهما النموذج الذي أتعلم منه كل يوم حب الحياة». 

— ختام مقال (عام من الألم) والذي كتبه الراجل خوري في يوليو2024، وهو على سرير المستشفى في مرضه الأخير.

حتى قبل أقل من 4 أسابيع فقط من وفاته، لم ينقصف قلم إلياس خوري، وحافظ على انتظام كتابة مقاله الأسبوعي في صحيفة القدس العربي، وكان الهم الفلسطيني حاضراً حتى السطور الثلاثة الأخيرة من آخر تلك المقالات، والذي عنونَه (تروما) والتي تضمنت شهادة طفل فلسطيني أوردها إلياس خوري على لسان آدم، بطل روايته «أولاد الجيتو» عن آلام شديدة كان يعاني منها في ظهره، ولعل خوري هنا كان يتوحَّد مع بطله الفلسطيني في ألمه حقيقة ومجازاً، فقد كان مرضخوري يعصف به في تلك الأثناء وشكا من هذا الألم الجسدي والنفسي في مقالاته الأخيرة.

ولعل رثاء الشاعر تميم البرغوثي لإلياس خوري كان الأبلغ والأوقع والأوجع والأفعم بالأمل أيضاً. لقد ولِدَ خوري عام 1948 مع البداية الكبرى للنكبة، واصطدم عنفوان شبابه بعنفوانها في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وشاخا معاً، لكنه سبقها في الرحيل، وتركها لنا، وتركنا لها. ولعل الأحداث الكبرى الحالية وتضحياتها الجسيمة تكون مطلع الفصل الأخير في حياة تلك النكبة المستمرة.

وداعاً إلياس خوري … قرَّبت، لو كان ممكناً أن تنتظر قليلاً، قرَّبت.

# حرب غزة # فلسطين # إلياس خوري # طوفان الأقصى

وقف إطلاق النار: آمال مرتفعة على اتفاق هش
جورج إبراهيم: أقدم سجين في العالم فداء لفلسطين
«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات

معرفة